رأيت ليل الغربة كماء آسن في وعاء أكله الصدأ ، أوعربة يجرها حصان مجهد إلى آخر العمر.
والليل في مدينتا يقتات على الفضائح وكلما جالسته أمام نافذتي روى لي عن فضائح مدينتنا وهو يتلصص بين الفينة والأخرى خوفاً أن يداهمه الفجر ... كي لا أره يموت فالليل في مدينتي يقتل على يد الفجر مرة كل نصف يوم ... وقبل أن يباغته الفجر بخنجره المضيىء ينسل من نافذتي ويودعني على وعد بلقاء قريب .
لكنه بعد أن ينصرف أكتشف أنه تطلع في أوراقي الخاصة والتقط كلمات من مفكرتي ليقصها على آخرون ينتظرونه امام نوافذهم ليقص لهم عن فضائحي الصغيرة التي خبأتها في أضابير مفكرتي.
أتسلل عندما أفتقد الليل أمام نافذتي ... لأبحث عنه فأرتاد الأرصفة لأنها المكان الوحيد في بلادي التي لا تسأل المارة عن ألوان احذيتهم وهويتهم الدينية والعرقية وعن ما يمارسونه في بيوتهم التي تمتد في شوارعها الخلفية ... لأسئلها إن كان الليل قد مر من هنا.
أكتشف أنني أفتقد مع الليل النوم ... وأعد كم من السنين لم أنام فيها كما ينام طفلي الصغير ... وأتعجب من قدرة هذا المخلوق على الكيفية التي يستطيع بها أن يباغت النوم في الوقت الذي يشاء! لأعود وأكتشف أنني أفتقد مع الليل والنوم البكاء ... إذ يبدوا أن النوم والبكاء يتبعان الليل في تشرده الليلي.
أتكىء على حافة الذاكرة علها تستدر شيئاً يدفعني للبكاء فأتذكر أن آخر يوم بكيت فيه فاضت عيون من الماء فأغرقت مدينتي وأسقطت البيوت فخرجت فضائح الناس من البيوت إلى الشارع ... وبكى الليل على نوافذ تساقطت ... كان يستلذ له أن يتسقط فضائحه ليرويها للجالسين فيها ... وكانت هذه أول ليلة يبات فيها الليل دون أن يجد شيئاً يرويه للناس.
أعود سريعاً إلى طفلي الصغير وأحتضنه لأدس نحيبي فوق صدره ... فيمسح ما تساقط من دموعي ويضحك ... فأضحك كما لم أضحك من قبل .
أهرول نحو قبر أمي وأسألها أن تلوليني وتحكي لي حكاية فاطمة السمحة ... وكيف أنزلت ضفائرها من نافذة القصر ليلاً ليتسلق عليها حبيبها ويبثا الليل شوق عمر بأكمله ... ثم يعود متسللاً على صهوة حصانه الأبيض.. في اللحظة التي يبدأ فيها الفجر بنحر الليل ... فتقول لي بأن فاطمة لم تعد تلك السمحة ولم يعد فارسها هو الفارس ... فقد قصت فاطمة جدائلها وصبغت شعرها وصارت تتحدث ( هـــيك ) أما فارسها فقد أمتطاه الروم منذ زمن بعيد ... ولم يعد هو فارسها في الغرام.
أسألها أن تلقمني صدرها كما كانت تفعل عندما أبكي .. وتغني لي تلك الأهزوجة التي يبدوا أن النوم نفسه كان يحب أن يسمعها فيأتي مسرعاً ليسكن جفوني فأنام ... يا نوم تعال سكت الجهال ... يانوم تعال سكت الجهال ... فتشير إلى قبرها ... فيقول لي القبر يا بني ... جف الحليب ورفعت الرحمة.
في محاولة يائسة أحاول ملولات نفسي فأغني لها ... يا نوم تعال سكت الجهال .. يانوم تعال سكت الجهال ... وأبوء بالفشل فصوتي لا يهدهدني كما كان صوت أمي ... أكتشف في هذا الليل المليء بالإكتشافات بأنني أحن إلى صوت أمي ...
لا يوجد غيري في هذه المدينة يلوك الصحو فالجميع نيام ... وما زال طفلي يمص أصبعه وهو نائم فأنظر إلى وجهه الذي لطخته الحلوى وبعض الخربشات من قلم تركته فرسم به على وجهه ويديه حروف لا يستطيع سبر كنهها غيره فأقول له نم عليك السلام.
أظل وحدي الغريب في المدينة أنظر بإتجاه الشمس... فالشمس في مدينتي تولد للغرباء وحدهم ... فوحدهم الذين يتحسسون إتجاهها ربما لآن الغريب أعمى ... كما يقولون .
يداهمني يأس ممض فأردد صلاة جارتنا المسيحية ...( أبانا الذي في السماء أعطنا خبز يومنا كفافاً ولا تدخلنا في التجربة ) وتأبى يد الله إلا أن تدخلني في تجربة البحث عن الليل والنوم والبكاء وصوت أمي ...
أتوجه إلى أوراقي لأبدء من صباح أول يوم في فجر التاريخ وأكتب ... في البدء كانت الكلمة وكان إسم الرب مباركاً ... فأكتشف قبل إنتهاء السطر بأنني لا أقول الحقيقة لأن الليل في البدء لم يكن مظلماً كما هو الآن وكان مضيئاً بنور ربه ... حتى دنسناه فأسود وجهه من فضائحنا ... فأترك أوراقي وأعاود البحث عن الليل والنوم والبكاء وصوت أمي .
ادير محرك سيارتي وأتطلع إلى الساعة الموجودة بداخلها ... فتقول لي أن ما افعله محض هراء فساعتي اللعينة لا تأبه بالوقت ... لأنها تعتقد أن الوقت هباء في مدينتنا ... وتأبه فقط لحالتي النفسية ... وترفض كعادتها التسكع ليلاً ... لأنها لا تحب أن تكون كما أبوالسرة الجالس في ضل العمارات أم كمرةً برهـ ... فسيارتي تكره الكمرات المبثوثة في الشوارع لأنها تقيدها في سيرها وتعقلها متى ما أرادت التوكل ... كما تكرهـ رجال المرور الذين يتحسسون مؤخرتها ليلاً في مكامنهم الليلية ليروا إن كانت تحمل ممنوعاً ... وهي حساسة تجاهـ مؤخرتها.
أعود إلى نافذتي ... فأجد اللاشىء هناك ... فأقول له
اريد أن أبكي ... أما من رجل رشيد يهز أعمدة البكاء في هذه المدينة النائم أهلها..
فيبكي اللاشىء
جدة 2005
هذا الموضوع منقول من :: حميدكي: موقع قرية حميد - السكوت :: يمكنك زيارته في اي وقت للاطلاع على المزيد من مواضيعه
]]>